الأربعاء، 5 مارس 2008

إنطباعات شخصية عن الشعوذة











لطالما تحسرت في حياتي على إمكان الإمساك بإحساس المحتضر أثناء الكتابة. أن تكتب كأنك ستموت ما أن تضع النقطة الاخيرة. لكن مثل هذا الإحساس لم يكن في متناول اليد وفي مثل هذه السهولة، فالحياة ندٌّ للموت، ولا يمكن أن تسمح لكائن لا يزال يتنفس ومهما تكن حدة يأسه، بالوصول الى مثل هذه العتمة الخالصة. فلا بد لها ـ الحياة ـ من أن تترك برعما صغيرا من الأمل في قلب الانسان: أن تحول دون أن يتسوس نهائيا. هي بكتيريا مضادة غير مرئية: بكتيريا الوهم. ثم تبددت فجأة من سماء حياتي هذه الافكار الصغيرة عن الكتابة. ذات مساء شتوي بارد وانا في طريقي الى هجر السينما التي حاولتُ الكتابة من خلالها أيضا لكن من دون حظ يُذكر، تعثرت بوحشة مرّة، كانت ملقاة على قارعة الطريق، ضحكت كثيرا ثم صمتُّ فجأة كعبقري مزيّف: الكتابة هي مجرد صالة متواضعة لممارسة الشعوذة، وليست ماكينة لصنع الحياة أيها الأحمق! وهكذا، أعيش حياتي اليوم مثل من يحاول أن ينفخ روح زهرة في جسم ضفدع. ومن يدري بأي حفرة سأتعثر في صباح الغد. الدروب بالغة الغموض ومصابيحها محض خدعة مسرحية.


•••



أن تكتب، يعني أن ُتخرج الإحساس الى الهواء في حالته المسخ، وقبل أن يمر بالدماغ وقبل أن يصل الى الورق. أن تخرج تلك الدودة من قلبك كما هي، طرية تفوح منها رائحة الدم الملوث، من دون خجل ومن دون أن تلبس الدودة ربطة عنق أدبية. والأجدر أن تكتب في زمن السلم بهذه الطريقة أيضا. هذا ما قلته لصديق يحب اللغة أكثر من الشعر. ومن قال له إن الشعر يكتب بالكلمات فحسب. الشعوذة هي علم الاحلام وليست فن الكلمة.



•••



خراء ... خراء ... خراء ... خراء ...



الكل يريد أن يعرف لم ألطخ الورق كثيرا بهذه الكلمة المقززة. لقد أخبرتكم بأمر المرحاض ألف مرة. ماذا ، هل أنا مصاب بإسهال ، ألا يمكنني استبدال هذه الكلمة بكلمة أخرى تؤدي الغرض نفسه لكن برائحة مكتومة على الاقل ؟ اليكم السر الذي لم يعد سرا ، فقد كشفته لك ولهم في اكثر من مناسبة خرائية



– ها أني أعودة الى الرائحة القديمة ...



قال لي مرة رجل عجوز مصاب بالبواسير : الواقع هو قوتنا يابني ، ولا تهم الطريقة التي ستكتب بها عن هذا الواقع. ثم واصل العجوز ترديد كلمة يابني... يابني ... يابني ، وهو يبتعد كي يختفي الى الابد.



لم تكن هناك اي علاقة بين بواسير العجوز و ماقاله عن الواقع. لكنني شعرت حينها بأني ـ نيوتن ـ الذي وجدها. شكرت الرجل على هذه النصيحة ورجعت الى البيت وأنا أعدو وأتصبب عرقا ، جلست الى الطاولة وإتخذت قراري : أن أكتب طوال حياتي بهذا الاسلوب : أن يكون الواقع طعامي و لا احتاج إلا الى أسنان من حجر ومعدة قوية ومخرج ضيق للشعور بقيمة ما يخرج. هل فهمتم يا أصدقائي ؟ أنا لا أفعل شيئا سوى هضم طعامي جيدا. أنا بريء! وكل هذا الخراء هو ثمار الواقع. وأنتم قد لا تأكلون بل تعيشون على الهواء فقط...



•••



- عن أي قضية تدافع هذه الايام؟



ـ عن النوم.



- لماذا؟!



ـ حين ينام الاحياء يشعر الاموات موقتا بالعدالة.



- لكنك مصاب بالأرق!



ـ لكي أثبت تفوقي على الاموات.



- متى ستتوقف عن الكتابة؟



ـ حين أنام.



- يمكنك أن تستعين بعلاج من طبيب.



ـ لا، هذا تزوير للسلام.



- تتحدث عن السلام، لكن عن أي حرب تتحدث هذه المرة؟!



ـ أكيد، إنه قتال مرعب.



- تقصد ضد الحياة أم الى جانب النوم؟



ـ الى جانب الحلم أيضا.



- لا أفهم!



ـ الحلم هو دودة في دماغ النائم، وتختلف عن الدودة في جمجمة الميت بقضية العدالة. الاولى تريد أن تفك شيفرة. والثانية تريد أن تثبت عبث محاولة الاولى، لهذا فكل انسان هو من برج الميزان. عاطفي، أحمق، رخيص، قبضة هواء.



- الا تعترف بأنك تناقض نفسك كثيرا في كل ما تقوله وتشعر به؟



ـ استخدام كلمة تناقض يدل على تفاهة صحافي طائش مثلك. هل تريد إلزامي أن أعيش مثل تمثال حجري وسط ساحة عامة؟ حتى كومة الحجر هذه، تملّ وتتعب وتغيّر لونها وتشحب، وحين يعيدون طلاءها يتحقق المزيد من السخرية، ورغم أن الزمن سيمدّ لسانه على الدوام في مؤخراتهم، كلما حاولوا الضحك بسبب أو من دونه.



- حسنا ، اخبرني لِمَ ترتاد معارض الرسم في الليل والنهار؟



ـ بحثاً عن الطريقة التي سأموت فيها. كدت أُقتل أثناء هربي عبر حقل عند حدود بلادي كان نسخة طبق الأصل لحقل فان غوغ. وقبل أسبوع عثرت في لوحة على مجموعة من الألوان تشبه ورما سرطانيا ينتفخ في قلبي. أؤكد لك مرة أخرى أن الرسم مثل الحلم، نبوءات مشفّرة.



- ما هو جديدك؟



ـ كلمة جديد تذكّرني بحاضنات الاطفال في المستشفى، المواليد الطرية التي ستلتحق في نهاية المطاف بالمقبرة القديمة. مع ذلك أنا أكتب في رواية تاريخية تتحدث عن سيرة الناس الذين تغوّطوا في سراويلهم من شدة الفزع، حدث لي هذا أكثر من مرة. لا أقصد هنا أيَّ رموز في هذا الكتاب.اعني بول وخراء طازج يدفعه الرعب الى الخارج.



- يبدو أنك ضجر جدا. ـ شكرا لك على هذا الاطراء الذي لا أستحقه.



- كلمة أخيرة منك.



ـ خراء.

ليست هناك تعليقات: