الأربعاء، 5 مارس 2008

مياه العميان






تلقيت قبل ايام رسالة من كاتب منزعج يشرح لي طرق الكتابة المعاصرة بنبرة دينية. أظن أن قلب الرجل يتفطر وجعا على طريقة كتابتي المنوية. خمنت ايضا انه من الكتاب المسالمين الذي يكتبون من اجل الدخول الى اكاديمية الكتابة العربية النظيفة. النقية. المهروسة جيدا في مطحنة النحو. اظن ان الرجل حارس لغة مخلص وذو نية شريفة. لا ادري كيف سيكون حال اللغة وبقية الابقار المقدسة من دون هؤلاء الكتاب. اعتقد انه لو تركت الامور لكتاب على شاكلتي، لحلبوا البقرة حتى اخر قطرة وذبحوها في منتصف الظهيرة على مرأى العبيد. ما ازعجني حقا في رسالته نبرته التطبيبية ، إذ ماعلاقة جروح البلاد التي تطرق اليها في رسالته بما اكتب. ثم من قال له انني اكتب من اجل انقاذ حياتي. افضل ان استمني من دون إنقطاع على ان اداوي حياتي بالكتابة. انا اكتب عن حقد فحسب يارجل. ثم هل يمكن لكحال مسكين ان يشفيني. الله يرحمك يا ابن زكريا الرازي ! ابن القحبة منصور السماني اساء معاملته بوقاحة لا تغتفر. أمر بضرب الرازي بكتابه الى أن يتحطم رأسه أو يتحطم الكتاب. فالرازي المسكين فشل في بعض ابحاثه الكيميائية التي طلبها منه السماني. ظلوا يضربونه الى ان فقد بصره. و حاول ( كحال ) مثل اخينا صاحب الرسالة مداواته. جلب بعض الادوية لمعالجة بصر الرازي. غير أن أبا بكر بن زكريا سأل الكحال قبل أن يوافق على مداواته ، عن طبقات العيون. أجاب الكحال انه لايعرف شيئا عن هذه الطبقات. اجابه الرازي بحزن : انه يفضل ان يفقد بصره على ان يداويه كحال لا يعرف عن أنسجة العيون شيئا. أنا اعرف ان غضبي من رسالتك سيحشرني معك في واجهة الغرور الزجاجية نفسها. لافائدة من الصراخ في القصائد : انا صرصار ، لتحقير الذات بذريعة التواضع. كل من يريد ذلك ما عليه الا ان يفيق ممسوخا ويتدبر مأزق يومه مثل المرعوب كافكا. صدقني يمكنني ان اتفهم الحكمة الأمومية التي غلفت نبرتك في الرسالة يا صديقي. اعتذر منك حقا. لم اقصد السخرية. انت تعرف مثلي جيدا هذه الحكاية المكرورة : رجل تجاوز العقد الثالث من عمره يظن انه امسك بجوهر اليأس. واخر في منتصف الرابع يضحك منه. ومن في الطابق الخامس يسخر من الرجل في الرابع وهو يبصق ويتمتم : اليأس دمٌ يطوف في دمي. أما الرجل الذي هو في السادس فيكتفي بهز يده على ما يتوهمه هؤلاء الرجال . وهكذا كلما صعدنا السلم زاد اعجابنا بانفسنا كحكماء ومعلمين. صبي في العاشرة من عمره هو اليأس بعينه. الفارق الوحيد بين الرجال وهذا الصبي الجميل هو نهر الموت. الرجال يغرقون بينما الصبي تلميذ مازال يقرأ فيه. سمكة مازال النهر مدرستها. لا ادري ان كنت تعرف الكثير عن عالم الاسماك. حسب مافهمت انك مشغول هذه الايام بكتابة قصيدة ستثبت فيها إعجاز اللغة العربية ، وقرب وسادتك تنام المعاجم السمكية. الله في عونك. لكن السمكة في الطبق الذي امامك تهمني أكثر. ارجوك ، تاكد من ان السمكة ليست من جنس ( سمك الرئة ). هذه الاسماك تنحدر اصولها من ماقبل التاريخ. لك أن تعرف بأني أحسد هذا السمك على ارادته الشعرية. تخيل انه قادر على التنفس حتى حين تجف البحيرة. يختبئ في الوحل ويظل حيا الى ان ينزل المطر مرة اخرى. اعتقد ان الانسان لايختلف كثيرا عنه في القدرة على التمرغ في الوحول من اجل حفنة هواء قادمة. لا اتفق معك كثيرا في هذه المسألة. فحركة الانسان الدفاعية تخلو من الزهد والتنسيق. إنها مجرد حركة عشوائية ـ دموية. وفي كثير من الأحيان لاتتعدى حقيقة وسائلنا الدفاعية حدود رغباتنا الدفينة في الانتقام.
تقول : لماذا لا تصطدم السمكة الملونة بجدار حوض الزجاج الذي نربيها فيه رغم انها لا تبصر !
إبتسمت: انها في هذه الحالة اقرب الى الخفاش. لهذا النوع من السمك حبل عصبي يمتد من الدماغ عبر فقرات الظهر. بعدها تتفرع هذه الاعصاب على جدران الجسم الى نقاط حساسة تشكل فيما بعد مايسمى بالخط الجانبي. من خلال هذ الخط يمكن للسمك ان يلتقط الذبذبات في الماء ولذلك لا يصطدم بأيّ شيء. أطفأت المصباح وأردت ان اعثر على نفسي في الظلام لكنني بالطبع ارتطمت بالحائط. فأنت سمكة غير مجهزة ببوصلة. أضاف قائلا بصوت محرج : ماقيمة النظر اذا كنا نعيش محكومين الى الأبد في نفق عالم مظلم ! حسنا ، الجواب عند سمكة اخرى. ستجيبك هذه المرة سمكة صغيرة بكل صراحة. انها سمكة الكهوف التي تنتشر بكثرة في المكسيك. فحين تولد، وفي مرحلة الطفولة بالتحديد يكون لها عينان طبيعيتان ثم ينمو الجلد حتى يغطي العينين. وعند البلوغ تصاب بالعمى. في الحقيقة هي لا تكترث بالجلد الذي ينمو ولا بالعمى، فما جدوى الابصار إن كانت تعيش طوال حياتها في كهوف البحر المظلمة. هي تعوض عن ذلك بقدرتها على الشم والذوق تماما كما عاش بورخيس السمكة. غالبما يمكن تصنيف قوة النظر عند الاسماك المبصرة وفق طعامها . فالسمك الذي يتغذى على النبات يكون نظره ضعيفا جدا. اما المفترس فيكون نظره بالغ القوة. وهذا الامر ينطبق على التباينات في نظر الكتاب. اطفأت سيجارتي على الحائط وأضفت : عالم كـأنه زريبة ! لاادري لم لااعثر في كل مرة سوى على هذا الحائط امامي. وبورخس اصابه الهلع بسبب توغله في كهوف المكتبة. لقد تعرف على الكثير من هيئات النور والظلام ، وكلها لا تطاق. لجأ الى اللعب واستغنى عن فكرة ان يكون قرش بحر أو روائيا. بصقت على الحائط من جديد ، قبل ان اخرج واترك الباب مفتوحا. وهذه من عاداتي الدرامية. الباب المفتوح والبصاق.
والآن لنعد الى المعجم الذي بين يديك. لاتنزعج بسرعة ، ارجوك ، فأنا اشك ايضا في امر هذا المعجم. أكيد أن هناك مئات الطبعات الجديدة والعتيقة من المعاجم المطرزة بالتراب. يستعين بها الكثير من المحتاجين والفضولين والقتلة لتفسير اقصر وادق السبل. لكنها لا تعدو كونها طبعات مزيفة منسوخة. كل معجم لا يشيد من طبقات المياه البركانية، هو كتاب يدعي اكثر مما يفسر. والمعجم الاعظم هو الذي لايفسر بل يضاعف اللهفة كما تعرف. المعجم احجية سحرية للحفاظ على اللذة ودوار الرأس. مثلا لايمكن الايمان بتفاسير الغرق المتوارثة. يغرق القراصنة حين تثقب سفنهم بمدفعية قراصنة آخرين. ويغرق السمك حين تكتم انفاسه بشباك الصيادين. الداخل الى البحر يغرق، والخارج منه يغرق أيضا. وهنا يكون كل حديث عن النجاة أحتيالا تقوم به المعاجم الدينية. وكل حديث عن الغرق ومغزاه ليس إلامحاولة مكرورة ومقرفة تقوم بها معاجم الفلسفة. يبقى لدينا الشعراء وهم الأكثر دجلا في الحكاية. فهمُّ الأول ، والأخير هو المعجم بحد ذاته. هم يتبارون بالطبعات فيما بينهم ولا يتوانون عن قتل كل مايصادفهم من اجل طبعة جديدة. أكيد أن القشة تبقى الأمل الاخير وحركة شعرية خالية من المراوغة ، إنها الوهم والحقيقة ، القشة جملة مائية من ألف صفحة وصفحة !
أبدل الطقس فكرته فجأة. ظهرت الشمس وبقيت الشوارع مبللة بأمطار الصباح الغزيرة . تسارعت حركة الناس قليلا وزادت السيارات من سرعتها. فكرت ُ : يمكنك الآن ان تعثر على من يبتسم من دون سبب. امرأة عجوز أغلقت مظلتها بعد ان مدت يدها اكثر من مرة خارج المظلة للتأكد من أن المطر قد كف عن الهطول. الحياة من واجهة المقهى الزجاجية تبدو اقل عدائية، وكأنها تسير حسب الخطة المتواضعة التي رسمت لها، قانعة راضية. توقف شاب يغطي عينيه بقبعة كبيرة وهو يتلفت وكأنه فقد شيئا. نقل الحقيبة من يده الى ظهره ثم خرج مسرعا من اطار واجهة المقهى صوب اليمين. مياه الأمطار تنزل عند حافة الرصيف حاملة معها نفايات الناس الى الاسفل. غيمة عملاقة بدأت تنزاح و أعطت للشمس مساحة اكبر. لم نر الشمس في السماء. راقبنا اشعتها وهي تنتشر ببطء في زجاج نوافذ تلك البناية العالية. بعدها بأطول من ساعة لم يحدث اكثر مما يمكنك ان تتوقعه ان يحدث حين تراقب الحياة من واجهة مقهى. مع ذلك فقد حدث قتال خاطف في الداخل انتهى بسفك دماء بشعة ذات رائحة كريهة ومقززة ، شبيهة برائحة دم الولادة الذي يصبغ رأس الوليد. طلبت علبة سجائر وكوب قهوة آخر. أردت ان امد الداخل بأكبر قدر ممكن من دخان السجائر. خشيت ان تنتهي العلبة اثناء القتال ( وبين احساسين ضاربين في القدم ). كنت معلقا بين اليأس والهلع. حينها كانت السماء تمطر بحقد. اخذ الداخل يغرق لكن المياه لم تصل رأسي. وفي عين رسام سوريالي يكون الرأس على رقبة نعامة. الرقبة تدور فوق سطح المياه مثل عين الغواصات الحربية باحثة عن نقطة ضوء. عن بصيص امل...
مرت ثلاث ساعات.راقبت عودة ظلال الغيوم الى نوافذ البناية العالية. رجل قميء القامة مدّ يده ليتأكد من سقوط أولى قطرات المطر. فتح مظلته وسار متجهما. عادت الحركة الى الوراء مرة اخرى. مطر. مطر. حقد . مطر. رقبة النعامة أخذت تسير بحذر وحيدة على الرصيف بخطوات رجل اعمى. لا... لا ، لم انشغل عنك يا صديقي. كل مافي الامر انني نزلت الى المقهى للكتابة اليك. لكنها كما ترى امطرت من جديد. لقد تأخر الوقت. ساكتب إليك هذه الليلة. لكن قل لي اين انتهينا ! اظن انني كنت احدثك عن طير عملاق عجيب. نعم ، تذكرت. هو طائر ضخم الجثة يسمى بالعربية : ( الصخاب ). يبلغ طول جناحيه خمسة عشر قدما ، وله صوت قوي مثل نفير يوم الحساب. إنه طائر حالم ومرعوب أيضا. قادر على الطيران ساعات طويلة دون توقف. ويقال انه ينام أثناء طيرانه. وعلم النفس يجد حالة هذا الطائر موازية لحالات المصابين بالفصام لكنهم لم يجزموا بذلك فمازال هناك متسع من الوقت قبل التأكد مما يعانيه الانسان بالتحديد قبل التوغل في اسرار طائر البحر. نحن بحاجة الى المزيد من المختبرات. عليهم ان يتوقفوا عن اجراء الاختبارات على الفئران وإلا سيفوت الأوان. علينا ان نشرع في تجارب مختبرية بطريقة مباشرة على الحيوانات من فصيلة البشر. علينا ان نعرف انفسنا قبل ان تلتهمنا الكارثة التي سنتخيلها ونسببها نحن لانفسنا. هناك حاجة الى المزيد من المتطوعين ، للوصول الى منابع الورم الانساني. هناك حاجة ملحة اليوم الى جنود فئران. ولاضير من جر الناس عنوة الى المختبر ومثل هذا الطفل الذي يركض في الحديقة العامة. يمكن ان تلخص حكاية التحليق بطريقة واقعية اذ ما فحص ريش الطفل بمجهر محايد. اقصد من دون شفقة أو تردد ! اما طائر البوم فعثرت على احد اجمل انواعه في كتاب الامتاع والمؤانسة. إذن اصغ الي : في ليلته العاشرة يصف ابو حيان التوحيدي في كتابه الرائع هذا ، طائر البوم كما لو أنه يلخص حياتي :
( البوم : مأوآه ومحله الخراب، يوافقه الليل، لانه بالليل بصير وبالنهار كليل، مع حبه للتوحد والخلوة بنفسه ، وبينه وبين الغربان عداوة ٌ ما تنقضي ).
أنا ادعي النسيان خوفا على ماتبقى مني. الساعة هي بلا حراك منذ الثانية عشرة وخمس دقائق.رغم ان ضوء الفجر يتمازج ببطء في زجاج النافذة المتسخ. ربما توقفت الساعة نهار البارحة او ليلا قبل يومين او قبل ان تمرض. في الثانية والثلاثين من عمري ارقد في هذه اللحظة وحيدا في شقة صغيرة بعيدة كل البعد عن الاشخاص الذين مازالوا يتذكرونني. في الصورة التي تلطخت بالمني، امرأة زنجية عارية ، تفرك بظرها بأصبعها وتفتح فمها مثل سمكة مرعوبة. غسلت زبي ، ثم عدت الى السرير، وبيني وبين الماضي عداوة ماتنقضي. في الثالثة والثلاثين. فجرا. في الثانية عشرة وخمس دقائق على الحائط. الان. استلقي وحيدا. اكتب قصيدة خالية من الشعر. اكتب هيكلها العظمي. اخرج المني لئلا يفسد،. اعد فطوري. بيضة غراب وقهوة. الشمس تصعد. ظلام يهبط. اين انت. انا لااراك. اشاهد في المرآة سمكة قرش تستلقي في السرير. اظنها تنام في مكاني ، ياللوقاحة ! ساكتب إليك غدا ، حين اشتري لزمن الحائط بطارية جديدة ، وللنهر سمكة ستنزل فيه مرتين. هل ستصدق هذا الشيء أم أنك ستتهمني بالجنون هذا المتاع الإحتياطي في حياتي ؟ تحيتي وكن أكثر حكمة من السمك و الأنواع الأخرى من مملكة الحيوان.

ليست هناك تعليقات: